مدحت علام
الكويت
- التعليق
رؤى نقدية
تتلمس التاريخ وتكشف إحداثياته
(أوبرا 40) لأحمد الصانع... سرد الحياة في أزمنة متغيّرة
| مدحت علام* |
مسافات زمنية بعيدة، غير أنها منهمكة في سرديتها وأحداثها، ومتوازية مع رؤى تتحاور مع الواقع والخيال معاً، بتواتر حسي، متناسق مع الكثير من المشاعر الإنسانية المضطربة أحياناً والمستقرة في أحيان أخرى. تلك التي يعبث فيها الحزن والفقد، ويمسّها الألم، ثم يقترب منها الفرح من خلال نافذة الأمل، تلك التي سرعان ما توصد، من دون أن يكون هناك متسع من العمر، لإعادة الكرّة من جديد.
هكذا عالجت رواية (أوبرا 40) - في جزئها الأول لمؤلفها الكاتب السعودي الدكتور أحمد بن عبدالله الصانع - الأحداث من منظور تاريخي لم يتخل البتة عن الحاضر، بل إنه تخطاه كي يتوغل في المستقبل، في تدفق سردي منحاز في المقام الأول إلى فضاءات مأهولة بالواقعية والخيال معاً.
فالرواية الصادرة عن - " الدار العربية للعلوم ناشرون" - استطاعت أن تستشرف إحداثيات مهمة في تاريخ المنطقة العربية سواء في بغداد أو القاهرة أو بيروت أو الرياض، بل إنها تخطتها إلى مدن أجنبية أخرى مثل إسطنبول، باريس، البندقية، روما، وموسكو، مونتريال وغيرها، وهذا الاستشراف لم ينقله المؤلف بصفته مؤرخاً أو باحثاً، ولكن بصفته مبدعاً يبحث عن الحقيقة، ويريد أن يستلهم من الماضي، أحداثاً ربما وقعت أو كادت أن تقع في وقتنا الراهن.
وعلى المستوى السردي، فإن الرواية لم تتخل عن تواترها المتصاعد، ولربما في لحظات لحقها البطء، بغية التمهيد لإدخال ذهن القارئ في سياق التجربة، التي تساعده في استقبال أحداث صعبة المراس، تحتاج تكريس الفكر من أجل رسم ملامحها وتحديد مساراتها.
فرواية (أوبرا 40) تحتاج إلى ذهن متقد عند قراءتها، قادر على أن يتواصل مع أزمنة بعيدة، بل ربما موغلة في القدم وأخرى قريبة، ربما تلامس الزمن الراهن الذي نحن بصدده، بالإضافة إلى الأماكن المتشعّبة، التي تتنقل فيها أحداث الرواية في حيوية وانسياق شديدين، وقد تتوقف الأحداث طويلاً في مكان ما، وربما تمرّ على مكان آخر مروراً عابراً، أو ربما يكون المكان محطة انتظار للرحيل إلى مكان آخر أكثر استقراراً.
وهذا التكنيك الذي اتّبعه الصانع، أسهم بشكل ملحوظ في أن يكون لعمله الروائي، اتجاهان، الأول أدبي متناسق مع عناصر الرواية الحديثة، بلغة واقعية، وفي نسق خيالي جذاب، والثاني تاريخي، يرصد الأحداث التي مرّت بها المنطقة العربية تحت الحكم العثماني، مع الإسقاط الرمزي، على أحداث راهنة، غير أنه إسقاط بحاجة إلى تأويل، وتفكير ومقاربة منهجية، وتفسير كل ما تحتويه الأحداث من تواتر.
كما أن المكان له اتساعه وتغيّره في الرواية، بسبب سيره في استقامة مع الزمن... فلكل مكان له مواقعه ومواقفه التي تسيّر الأحداث، بتضمين حسي مفعم بالحيوية.
كذلك الزمن الذي اتخذه الصانع في تجسيد أحداث روايته، له اتجاهان متوازيان مع بعضهما، غير أنهما في النهاية يلتقيان، الاتجاه الأول يسير وفق مدارات ودهاليز التاريخ، الذي استخلص منه المؤلف رؤيته، ويتمثل في شخصية عالية، تلك الفتاة الحجازية التي تعيش في بغداد، ثم تمرّ الأحداث في تواتر كي تلتقي بشخصية عبدالله، وهو شاب أصوله نجدية، غير أنه نشأ في البصرة في كنف أسرة ثرية، وفي هذا الزمن، الذي حدث إبان الحكم الملكي للعراق، استطاع المؤلف فيه أن ينقلنا إلى شوارعه وأحيائه وناسه وأزيائه وعاداته، وثقافته.
إن هذا الوصف الدقيق الذي أخلص المؤلف في وضعه - وكأنه عاشه وتفاعل معه - رغم أنه بعيد عنه بعشرات السنوات - نجح في أن يدخل القارئ في غمار التجربة، على أساس أنه جزء منها، وبالتالي جاءت الأحداث منسجمة تماماً مع ما يتطلبه السرد من أحداث صادقة.
لنقرأ من أجواء الرواية: "قال والدكم إن الأمور الرئيسية بيد الإنكليز، وليست بيد رئيس الحكومة، ولا يستطيع حتى الملك أن يكسر قراراً أصدره المندوب السامي".
مع التأكيد على أن الشخصيات الأساسية التي ارتكز عليه المؤلف في مفاهيم روايته، اتسمت بالكثرة والوصف الدقيق لها، وبالتالي تمكن القارئ من أن يتفهمها من كل اتجاهاتها، مع التعاطف مع آلامها، والبحث عن حلول لمشاكلها، والانسجام مع اهتماماتها.
كما أن الرواية احتوت على معلومات تاريخية، سيتفاجأ القارئ أو حتى المتخصص بدقتها، مما يوحي بأن الصانع بذل جهداً كبيراً من البحث والتقصي عنها، كي يكون عمله مكتملاً، لنقرأ: "المهم ان قلب المعماري سنان باشا خفق لسيدة من العائلة الحاكمة، عندما كان يعمل رئيساً للمعماريين في بلاط السلطان سليمان القانوني دون علم السلطان".
فيما عادت الرواية بسرعة خاطفة - خلال الاتجاه الزمني الثاني - رغم ما مرّ من أحداث وحكايات - إلى الزمن القريب، بل إنها اقتربت أو لامست زمننا الحالي، خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي، لنجدها تقفز من غير تمهيد، وبمباغتة أدهشت القارئ، إلى ياسمين - الشخصية الرئيسية الثاني في الرواية بعد عالية - تلك الفتاة التركية الرقيقة التي درست الطب وتخصصت في الولادة وأطفال الأنابيب، ووالدها من أثرياء تركيا، ومن ثم تلتقي مع (الراوي) الذي تدور أحداث الرواية على لسانه، وهو شاب سعودي، يبحث عن قصة حب جرت في العراق القديمة بين عالية وعبدالله، وتتبّعه تلك القصة إلى أن وصل تركيا، وهناك التقى بوالد ياسمين، وأصبح بينهما أحاديث وأعمال، فيما كان هذا الشاب السعودي (الراوي) يحمل في نفسه سراً دفينا يتمثل في عشقه للموسيقى، وجنوحه إزاء هذا العشق إلى التعاطي مع الألحان، غير أنه بسبب ما كان يمر به بلده من تشدد ومحافظة، كان يقوم بتأليف تلك الألحان تحت اسم مستعار.
ولأن الرواية تسير في مضامين كثيرة ومتشعبة، فإن المؤلف حرص على ذكر الأدباء الذين عايشوا الحقبة التي مرت بها أحداث روايته، وكان هذا الأمر، مثالاً متميزاً لدقة الوصف والرصد، حيث إنه تمكن من توظيف الأعمال الأدبية لبعض الشعراء مثل الرصافي والأخطل الصغير وغيرهما الكثر، في أغراض ومسارات خدمت العمل، وساهمت في توهج أحداثه.
وفي سياق اهتمام الصانع بشخوص روايته، فإنه راعي في هذا الصدد التنوّع، كي نجد مثلاً عالية (السنية) وفاطمة (الشيعية) ومريام (المسيحية) ورينيه (اليهودية) ابنة أخو وزير المالية ساسون حسقيل، يقمن بإنشاء حركة طلابية في الجامعة الأميركية في بيروت للمطالبة بحرية المرأة العراقية في التحرر وتقرير مصيرها، بعيداً عن هيمنة الرجال.
وحرص المؤلف على الوصف الدقيق للمشاهد الحياتية، خلال الأزمنة التي تتطرق إليها روايته، مثل أساليب الحديث والإتيكيت والأكل، وكيف كانت الطبقات المخملية والمتوسطة والكادحة تعيش، وموضة الملابس العربية والإفرنجية الفخمة للجنسين، إضافة إلى وصف تفاصيل العمارة والديكورات بدقة متناهية، تجعل القارئ يوقن أن مؤلف الرواية قد عاش فترة العشرينات الميلادية من القرن الماضي، عيشة حقيقية.
ومن الأساليب التجديدية التي وضعها المؤلف في روايته تلك الأبعاد السمعية والبصرية، خلال 130 عملاً فنيّاً و 25 عملاً موسيقيّاً تتنوع بين الأوبرا والعرضة النجدية والسامري والمصري الفلاحي اللاتيني، رصد بفضلها لوحات فنية ترسم الماضي البعيد بجمالياته وأسراره، كما قام المؤلف بتلحينها، مازجاً بذلك بين الأدب والفن في مدلولات إنسانية جذابة.
• كاتب وناقد مصري