غلبت على مقاربات أدب نجيب محفوظ القصصي، تناول عوالمه للكشف عن رؤيته الفكرية تارة أو زاوية رؤيته الطبقية أو الفلسفية أو الدينية تارة أخرى، في مقابل محدودية المقاربات التي تصدّت للكشف عن جماليات عالم السرد، ومتابعة تحولاته الفنية التي لم تأخذ حقها من الاهتمام النقدي. لذا جاء هذا الكتاب ليسلط الضوء على جانب من اشتغالات الروائي الذي ملأ دنيانا شغفاً وإدهاشاً، للكشف عن طريقة تفكيره الفني بحيز الفضاء السردي وعنصر الطبيعةعلى نحو خاص، متخذاً منها عنصراً جمالياً شغل مساحة لونية؛ لأداء دور وظيفي في حركةبناء النسيج السردي وتطور رؤية الكاتب، إنْ على مستوى الحدث أو الشخصية أو إبرازالدلالة الرمزية. ولا شك في أن الكشف عن هذا الجانب لدى الكاتب من شأنه أن يستكمل تصورنا لفلسفة محفوظ الأدبية وموقفه من الطبيعة، فضلاً عن قدرته الفنية على تشكيعناصر لوحته في الكشف عن دخائل الشخصيات، وتطوير مجرى الأحداث السردية، لتغدوحلقة في سلسلة تطور العمل الفني بأسره.من هنا فقد انتهت هذه المقاربة إلى الوقوف على مراحل وعي نجيب محفوظ، وتحول اهتماماته بالطبيعة وفقاً لتطور رؤيته الفنية والعوالم التي كان يتنقل بينها، إذ كان للوحة الطبيعة في مرحلته التاريخية دور وظيفي محدود، اتسم بالنمطية والطابع التسجيلي وبهيمنة اللغة الكلاسيكية، في حين نجدها في المرحلة التي عنيت بالقضايا الاجتماعية وتحولات المجتمع المصري وأحداثه وقد غلبت عليها الوظيفة التفسيرية غير المنفصلة أو المستقلة عما يجري من أحداث. لكننا سنقف في مرحلة تحوله إلى الاتجاه التعبيري إلى جعل الطبيعةعنصراً شديد التناغم مع النسيج السردي، لتكتسب أدواراً وظيفية جديدة أسهمت في نمو الأحداث وتطورها والإرهاص بوقوعها بطرائق مختلفة، منها تقديمها في شكل معادل فني لمشاعر الشخصية، أو في شكل مواكبة للحدث القصصي وتحولاته، أو للإرهاص بما يقع من أحداث، أو تقديمها في شكل تضاد مع مشاعر الشخصية أو أجواء الحدث، أو في شكل معادل رمزي للدلالة التي يريد أن يوصلها لنا الكاتب، بل تقديمها في شكل إطار كلي، يتحكم بعالم القصة ويتخذ دور البطولة فيها ليعبر عن الجو العام ودلالته الكلية. على هذا النحو، فإن هذه المقاربة تأتي لتخلخل الرؤية النمطية في النظر إلى عالم نجيب محفوظ، كاشفة عن تلك الاشتغالات التي لازمت التعبير السردي بالكلمة، إلى التعبير بالفرشاة عن توظيف عنصر الطبيعة بوصفه لوحة تشكيلية لها دورها المهم في التعبير عن حركة الأحداث وتأزمها ونموها، ضمن رؤية فنية واعية من لدن أحد أبرز روائيينا العرب وأكثرهم تجدداً وتأثيراً.
