تِلْكَ مُدُنٌ لكلًّ حكايتُها ومفارَقتُها: المصمَتةُ والمطويةُ؛ المبنيةُ بلا شوارعَ والمبنيةُ من مرايا؛ المغمورةُ في البحرِ والمعلَّقةُ في الهواءِ؛ التي أهلُها خفيُّونَ والتي نقودُها هي الخفيةُ.. إلى آخرِها من مدنٍ كُلُّها تبدأُ بالأمرِ السحريَّ: تخيَّل! أنْ تتخيَّلَ مدينةُ هو أنْ تُوجِدَ غيرَ الموجودِ، وأن تُنشِيءَ له فيزيائيتَهُ المفارِقةَ للعالَمِ المألوفِ. لكنَّ تِلْكَ المدنِ حتى لو كانت متخيَّلةً، فإنَّ بينها وبين الواقع تبقى صلاتٌ وثيقةٌ: فهي موصولةٌ إلى نفسِ المعنى المجرد والمُطلَقِ الذي تجتزِئُهُ المدن الواقعية، تلك التي إليها نسافر، وفيها نعيش، وخلالها نتنقل، وحتى تِلك المدن التي بها قد نمرُّ مرورًا عابرًا، فنلامس ظاهرها فقط لكننا لا نتورط في تفاصيل. فما هذه المدن جميعًا إلا صور متفاوتةُ الشَّبَهِ بالمدينةِ المِثَالِ التي لا وصولَ إليها أبدًا.