كان ذلك هو المفتاحَ الأول: الشخصية الدرامية. وأدرك بذكائه أن عليه إن أراد الرواية أن ينمِّي في حواسِّه القدرةَ على التقاط الجوانب الدرامية في أحوال الناس وحيواتهم، فعمد إلى تأمُّلهم بمزيدِ تفحُّصٍ ونفاذ. وردَّه ذلك إلى شيءٍ من الحياد المُعِين على إعمال العقل دون أن يصل إلى حدِّ التبلُّد، ودون أن يفقد ما جُبل عليه من التعاطف معهم والرحمة بهم. ومرَّةً تأمَّل فيض السابلة في شارع المكسيك فقال لنفسه أنَّ وراء كلِّ واحدٍ من هؤلاء قصة، وأنَّ في حياة كل إنسان منهم وماضيه روايةً يمكن أن تُكتَب. لكن مَنذا قادرٌ على الإلمام بحقيقة الذكريات التي جرفها تيَّار الزمن الهادر؟ إنَّ كلَّ ما يتبقى منها في الذهن ومضاتٌ خاطفة ربما شِيبت بالخيالات والأوهام. وكلُّ شيءٍ حين يُروى يصير حكايةً أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. واللحظةُ الحاضرةُ تصير ماضيةً يتخلَّلها على الفور النسيان وينتشب فيها الوهم. وهكذا تميع الحقيقة وتتلاشى حين تمضي، ثم حين تُتَذكَّر، ثم حين تُروى، ثم حين تُكتَب، فلا يبقى منها بعد الكتابة إلا صورٌ غائمةٌ لا تدلُّ على الواقع إلا بقدر ما تدلُّ تلك النقاط المضيئة في السماء على حقائق النجوم.
